كم كانت المدينة تنبض بالحياة وأنتَ هنا، تمشي في شوارعها، تستنشق هواءها وتشرب ماءها.
عودتك المفاجِئة إلى هذي المدينة، جعلت الدم يسري في عروقها من جديد. يتورد خداها حين تطئ قدمك الثرى. وتتنهد، تتنهد طويلاً حين تسمع نفَسكَ الهادئ نائماً على وسادتك في غرفتك.
ورغم شوقي الكبير لكَ، لم أحاول الاتصال بكَ. لم يكن شجارنا أكبر من حبي لكَ وجنوني واندفاعي نحوك، ليمنعني من محاولة لقائك. وحتى اللحظة لا أعرف كيف استطعت أن أرفع كبريائي عالياً دون أن آتيك من أقصى المدينة، ركضاً إلى حيث أنت.
كنت أحلم بوجهك، وأشعر بأن كل شيء في هذه المدينة اختلف. الهواء يتنفس، يستنشق ذاته، ويضحك منتشياً حين يشعر أنه خفيفٌ كالندى، لأنه في غرفة ما لامس رئتيك، وسكن فيك، قبل أن يحلق مجدداً.
كلما حاولت تجنبكَ، وجدت نفسي متلبسة بالبحث عنك، وكلما ابتعدت عن المدينة أياماً لكي لا تجمعنا صدفة ما، وجدت روحي تُنبِّشُ بحثاً عنك، حافرةً بعينيها كل وجه تلاقيه. وبدأت أشعر أن رأسي كله تحول إلى عينين، نافذتين كبيرتين من ضوء، تبحثان عنك. كم تهيأ لي أن الله اختصر جسدي كله، ليهبني هاتين العينين.
كانت الوجوه المضيئة التي تكاد تبدو أنت من بعيد، تَشحب وتنطفئ حين اقترب وتعود إلى أصحابها -الذين ليسوا أنت- لسوء الصدفة لا أكثر.
وكان وجهك بعيداً لكنه في قلبي، وروحك تطوف في الشوارع وفوق أشجار اللوز ملتصقةً بروحي. وكنت أشعر أن أجسادنا التائهة تكاد تلتقي، قبل أن تتوه منا عند منعطفٍ يزيد المسافة.
أما عن قلبي !
فقد عرف الطريق. ومنذ البداية حفظه عن ظهر قلب. وقلبك كذلك. لكنهما أرادا التعويل على الصدفة. اختبار موافقة -مشيئة القدر- على رغبتنا.
وفكرت طويلاً وأنا أكذب على نفسي مدّعية أنني أجوب شوارع المدينة ضجراً لا بحثاً عن المصادفة التي ستجمعني بك. ماذا سأفعل حين نلتقي؟
السؤال يرعب دقات قلبي، وللوهلة الأولى أقول بحزم، سأمرُّ بجانبك كأنك لم تكن. سوف أتجاهلك وأمضي بعيداً بعد أن أطعنك بنظرة أحدَّ من السيف.
ثم أُهدِّأُ روع قلبي قليلاً وأقول، سأصافحك ببرود، سوف أمد يدي باردةً كجثة وأرحب بكَ كأيّ رجلٍ غريب، لا يعنيني من أمره شيء.

وحين يهدأ قلبي أكثر، ويزداد خفقانه العذب وجنونه.
أقول
سأحتضنك أمام الملأ بكل ما ملكت من جنون، سأحتضنك حتى أعود إلى ضلعك الذي خُلقت منه واحتضنك حتى ينصهر الخلاف الذي كان عالقاً بيننا، وسأحتضنك إلى الأبد، لأنني أحبك إلى الأبد.

نبال قندس

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة