رسائل ما بعد منتصف الليل


الواحدة بعد منتصف الليل

كان يفترض بي  أن أكتب لكَ قبل رحيلي، وأن اعتذر عن كل الأشياء القاسية التي قُلتها أثناء جدالاتنا المتكررة، عن كل المرات التي أخفقت فيها في اصلاح الصدع الذي كان يكبر بيننا وعن كل الكلمات التي لا يمكن استرجاعها بعد البوح بها. لا يمكن أن أُنكِر، لقد كان عاماً مذهلاً هذا الذي قضيناه معاً، لكن مثل كل الأشياء هناك نهاية حتى للأيام السعيدة التي نود لو تبقى للأبد. لن تصدق هذا لكنني وددت لو أبقى إلى جانبك ذاك المساء نمشي معاً حتى ساعات الفجر الأولى على شاطئ البحر ثم ألوّح لك وأنا ابتعد نحو منزلي وتصير يدي مثل حمامة بيضاء تطير إليك.

لكن شيئاً أقوى مني كان يشدني بعيداً عنك، بقيت أقاومه طوال الوقت حتى تمكّن مني في نهاية المطاف. يؤسفني أنني لم استطع منع نفسي من المغادرة وأنني حين ودعتكَ للمرة الأخيرة التي كنتَ تظن أنها مثل كل المرات السابقة وداع قصير لساعاتٍ نلتقي بعدها في مقهانا المفضل على الطاولة الملاصقة للنافذة وكنت أعرف أنه فراقنا الأخير وأنني لن أراك أو أسمع منك لأعوام.

الثانية بعد منتصف الليل

تصعب الكتابة عن هذا، لأنني أدرك كم تبدو سخيفة محاولات تبرير أمرٍ لا أعرف لماذا أقدمتُ عليه لكنني لحسن الحظ لم أشعر بالندم ولو لمرة واحدة خلال هذه الأعوام الطويلة وأنني لو عاد بي الزمن إلى الوراء لكررت ما فعلته مرة أخرى وبنفس الطريقة التي قد تبدو لك مأساوية وناكرة للجميل.

هل ستشعر بالعزاء لو أخبرتك أنني كلما تذكرتكَ ارتسمت على وجهي ابتسامة امتنان لطيفة على الأوقات التي أمضيناها معاً، ابتسامة أُرسِلها إليكَ رغم المسافات الشاسعة الممتدة بيننا. هكذ أُخبركَ أنني بخير وأنني أذكرك بين حين وآخر رغم الأفكار الكثيرة التي تعبر رأسي بشكل يومي؟ وأنني لم أتغير كثيراً عن المرأة التي عرفتَها قبل أعوام؛ لقد طال شعري عدة سنتميترات كما أنني اكتسبتُ القليل من الوزن ووجهي لوحته الشمس بعد هذا الصيف الطويل. لكنني ما زلت المرأة الهاربة ذاتها، أشعر بالضجر من البقاء في مكانٍ لوقت طويل ولهذا مثل بحّار على متن مركب شراعيّ أُبحر من مكان لآخر.

الثالثة بعد منتصف الليل

هذه ليست الرسالة الأولى التي أكتبها إليك، فقد كتبتُ لكَ العديد من الرسائل على مدى السنوات الماضية وفي كل مرّة أترك الرسالة في درج المكتب في ساعات الفجر الأولى، في الموعد ذاته الذي افترقناه فيه قبل أعوام كما لو أنني أُعيد كتابة وداعنا بشكلٍ أفضل، وأذهب للنوم وحين استيقظ في اليوم التالي تكون قد تلاشت رغبتي الشديدة في الكتابة إليك فأمزق الصفحات بارتياح واتركها لتحترق في الموقد بينما أُعدُّ لنفسي كوباً من القهوة.

هكذا تحايلت على نفسي لتجاهل رغبتي في التواصل معك ولو عبر الكتابة، لقد أردت أن يكون وداعاً لا عودة بعده، ولكن أليس عجيباً أن يتكون الوداع والعودة من الحروف ذاتها تقريباً؟

الرابعة بعد منتصف الليل

أجمع أقلامي وأطفئ الشموع واستعد لترك هذه الرسالة في درج المكتب، رسالة أخرى لا أعرف كيف سيكون مصيرها. رسالة أرغب بإرسالها إليك ربما غداً، بعد عام أو أكثر من ذلك، لأقول وداعاً وأنزع بهذا شوكةً ظلت تَخِزُ صدري لأعوام لأنني لم أقلها في حينه.

 

نبال قندس

 


Comments

  1. الوجع الفظيع بالجملة الأخيرة "رسالة أرغب بإرسالها إليك ربما غداً، بعد عام أو أكثر من ذلك، لأقول وداعاً وأنزع بهذا شوكةً ظلت تَخِزُ صدري لأعوام لأنني لم أقلها في حينه."

    ReplyDelete
  2. انتي تحفة يا نبال ،كتابتك فيها احساس كبير ،كلماتك تمثلني الان وبقوة .

    ReplyDelete
  3. كلام من القلب و الي القلب

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة