لوحة



شقة فارغة ونافذة كبيرة بإطار أبيض تُطلُ على البحر ويومٌ أول لأمرأةٍ وحيدة في المدينة. امرأة ظلت تهرب من الماضي، تُبدّل المدن كما تبدل ثيابها كل صباح. تغمض عينيها وتمر بيدها على مجسم صغير للكرة الأرضية تحمله في حقيبة سفرها، وتختار عشوائياً مدينة جديدة تطير إليها. 

كلما أقلعت طائرة، بدأت رحلتها في التخفف من ذكرياتها، تُعيد تَمرير شريط حياتها مثل فلمٍ حفظت كل مشهد من مشاهده، ومرة بعد أخرى تُلقي عن كاهلها واحدة من الذكريات. تعيد ترتيب المشهد من جديد بحيث لا تكون هناك، تريد أن تُخفي أي أثر لها بحيث لا تعود الذكرى تخصها. وتترك فراغاً كبيراً، فراغاً لا يُمكن ملئه؛ هكذا تستطيع أن تنسحب من كل ذكرى لئيمة كانت تدمي قلبها وهكذا كانت تشعر أنها أكثر خفة من ريشة تطفو في الفضاء وأنها حققت انتقامها في نهاية المطاف من حياة لم ترغب بها يوماً.

بدأت رحلتها في اليوم الذي ضاقت فيه شوارع مدينتها، كانت المدينة تَصغر شيئاً فشيئاً، تصير الطرقات أضيق، تنخفض السماء كما لو أنها تريد أن تسحقها، وتشعر كما لو أن المكان ما عاد يتسع لها، تسأل مَن حولها عن تفسيرٍ لما يحدث لكن يبدو أن لا أحد يلحظ هذا الضيق سواها. لا مسافة بين الأشياء، كما لو أن أحداً ما سحب جميع الفراغات وصارت المدينة عجيناً من كل شيء.

تستلقي على السرير، فيهبط السقف نحوها، تتلاشى المسافة بين قطع الأثاث، الصور المعلقة على الحائط تقترب لتلتصق بها. قبل عدة أعوام حين ابتاعت حبلاً مضيئاً مزوداً بملاقط لتعليق الصور لم تكن لتظن أن هذا الحبل سيخنقها يوماً ما، وأن كل صورة كانت تجميداً للحظة زمنية ستكون حصاراً في يومٍ مثل هذا. كل هذه الضحكات التي جمدتها الصور تنظر إليها ساخرة، لا مزيد من الأصدقاء لتهرب إليهم، لا مقاهي تفتح لها الأبواب ولا طرقات تُرحب بها حين تخرج لاستنشاق الهواء. هذه المدينة تتنكر لها، ترفضها، تريد أن تكنسها مثلما تكنس غبار الشوارع. هذه المدينة التي كانت كل ذاكرتها تريد أن تتخلص منها اليوم كما لو أنها صارت عبئاً.

حينها فقط، وبعد نظرة واحدة نحو مجسم الكرة الأرضية الذي ابتاعته في أحد رحلاتها، لمعت لها فكرة الرحيل نحو مدنٌ جديدة، تستطيع فيها أن تُعيد الكتابة فوق ذاكرتها، بحبر جديد، وحكاياتٍ جديدة. حينها فقط، أدركت أن بوسعها أن تُعيد شريط حياتها نحو البداية لتكتب فوقه. هكذا  وجدت نفسها تملأ حقيبتها لتصير بعد ساعاتٍ قليلة على متن الطائرة إلى أول مدينة في طريقها الطويل نحو ذاكرة خالية؛ من الأيام التي بكت فيها لساعاتٍ ، خالية من كل الوداعات التي مرت بها، من عمل لم تحبه، من أشياء كثيرة لم تَخترها. ذاكرة بيضاء تبدأ بها حياة مُختلفة، في مكان تريده.

في كل رحلة، كانت تّفقدُ جزءاً من ذاكرتها، وتعيد كتابة حدثٍ جديد؛ ملمس اليد حين تلامس أيدي الآخرين، رائحة الأزهار في يد فتاة تقف على جانب الطريق، الرخام البارد لتمثالٍ في متحف، كيفية المشي على أسفلت شارعٍ مُعبّد، صوت وترٍ في آلة الكمان، ورائحة القهوة المنبعثة من مكان قريب.

هكذا كانت ترسم عالماً حيوياً، تبعث الحياة في الصور الجامدة، كما لو أنها تمسك عصاً سحرية. ومن مدينة لأخرى، من شارعٍ لآخر، تختلف السماوات ويختلف الهواء والناس وتمتلأ الذاكرة بالألوان والأصوات والروائح وملامس الأشياء.

نافذة كبيرة بإطار أبيض تطل على البحر، والشقة الفارغة تمتلأ بامرأة تخلت عن ذكرياتها القديمة، هذه محطة النسيان الأخيرة، هذه محطةٌ أولى لذكريات ستأتي، هنا تضع أريكة أحبتها، أصيص زهورٍ على الطاولة، تعيد ترتيب المكان مثل فنانٍ يختار ألوان لوحته بعناية. تصنع عالمها الذي تحب، بأشياءها التي تحب وتنظر نحو البحر لساعات حتى تتلاشى النافذة والجدار وتصير المرأة بحراً والبحر امرأة وتبقى في الجدار الخلفي لوحةٌ كانت هناك منذ زمن طويل لتروي لعشرات الذين سيمرون من هنا ويقفون لتأملها حكاية المرأة التي صارت بحراً والبحر الذي صار امرأة. 


نبال قندس 

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة