جريمة - نبال قندس


هل خاب ظني كثيراً حتى أهذي بهذا الشكل المجنون والمرَّضي؟ تساءلت لساعات لكنني لم أتوصل لإجابة شافية.
ربما هو محق، إمام المسجد أعني، يبدو أنني قد جننت حقاً، وإلا ما كان ليصرخ بي قائلاً إن عليّ أن أزور طبيباً نفسياً.

ما يحصل لي في الآونة الأخيرة مُربك جداً، أكاد أجزم أنني قتلتها، لقد رأيتها تموت أمام عيني، ودفنتها بيدي هاتين، حتى أن التراب ما زال عالقاً بأظافري الطويلة، وحتى التربة تحت تلك الشجرة ما زالت منبوشة قليلاً ورطبة، وهذا دليلٌ آخر على أنني قتلتها.

لكن لا أحد يصدقني حتى الآن وكلما حدثت أحداً بالأمر نظر إلي بنظرة تكاد تشبه الشفقة. 

لقد حاولت إقناعهم، وقلت لهم أنني على استعداد لنبش القبر من جديد، ليروا بأم أعينهم أنها ترقد بسلامٍ الآن وأنها ممتنة لي على فعلتي تلك.
تصور أن إمي التي كانت تصدقني دائماً، حتى عندما أكون كاذبة، -وفي الحقيقة يوجعني جداً أن تثق بي وتصدقني عندما أكذب عليها-، قالت لي أنني مرهقة وأحتاج قسطاً طويلاً من الراحة. 
قلت لها أنني ارتكبت جريمة وأنني لا آسف على فعلتي، لأنني أظن أنني قدمت جميلاً وارحت تلك المجنونة من تعبها ومن الخيبات التي أرهقتها لعامين متتالين. لقد كانت تأمل كثيراً بالذين تحبهم، ورغم أنهم خيبوا ظنها كثيراً لم تحفظ الدرس جيداً وظلَّت حتى النهاية تعتقد أنها ستتلقى مكالمة منه عندما تدق الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل.
كانت تتلو الصلوات وتنتظر، وكلما مررت بجانبها ضحكت بشكل هستيري من إيمانها هذا، أليست قبل أيام كانت تنتظر أن يمد يده لها حاملاً الكتاب ولم يأت؟ ألم تفكر للحظات بأنه سيرسل لها باقة ورد، وذبلت الطرق قبل أن يصل الورد؟ 
ياللسخافة، لم أكن أعلم أنها بهذه السذاجة، لقد كانت تبدو امرأة مذهلة، ومن المؤسف أن ينطوى خلف جمالها وذكائها كل هذا الغباء!
كانت تظن أن نهاية كل عام ستكون مثل نهاية ذلك العام الذي التقته فيه. كانت تحلم بأشياء كثيرة، وكلما قلت لها أن القدر ليس بهذا السخاء، لم تكن تلتفت لي، تستمر في المضي قُدماً موقعة جزءاً منها مات جراء خيبة ما أو طعنة.
لقد كان التخلص منها أمراً سهلاً، كنت أعرف أنه لم يتبقَ من حياتها إلا القليل، فقد كانت روحها المشتتة، جافة مثل عصا الراعي.
كانت تتجاهل الساعة، تتجاهل العقارب التي تدور، وتتجاهل صوتي حين يخبرها إنها لن تحصل على شيء هذا المساء.
ستنام وحيدة بوسادة مبللة بالدمع الممزوج بالكحل، لا شيء جديد، يبدو أنها اعتادت على الأمر حتى صارت تبكي دون دمع ودون أنين وصراخ. 
- لا شأن لكِ بي، اتركيني وحدي، سأصلي، سأصلي، سأصلي طويلاً.
- تعلمين أن السماء لن تمطرك بالأمنيات، ألم تتعبي من حماقاتك؟ لقد خذلوكِ جميعاً ورحلوا. أنت تعلمين هذا جيداً ولا تحتاجين من يخبرك به.
لقد فقدتِ كل شيء. هل تسمعينني جيداً .. كل شيءءء. لقد خسرنا كل شيء والذنب ذنبك.
أصدقاؤك رحلوا جميعاً لأنكِ امرأة باردة، لا تشتعلين إلا مرة واحدة. لقد سئموا حديثك البارد وردودك المختصرة وصمتك، سئموا التشبث بكِ في وقت كنت تتشبثين فيه بالسراب.
ههههه، تذكرين عندما قالت لكِ صديقتك المقربة، وتوأم روحك أنها لا تريد أن تراكِ ثانية، ولا تريد أن تسمع منكِ أو عنكِ أي شيء.
لقد فكرتِ يومها أنها مجرد مزحة وأنها حين تهدأ سوف تحدثك من جديد ويعود كل شيء كما كان، ولم يعد الحال إلى حاله، فقد اختلف كل شيء. وأنت الآن وحيدة بلا أصدقاء.
والرجل الذي بعتِ كل العالم لأجله، قام ببيعك مقابل مفرقعاتٍ نارية تُشعل السماء وسيارة.
هههه، يبدو أنك غالية بعض الشيء لتتم مقارنتك بسيارة ومفرقعات نارية، لكنك في الحقيقة لست كذلك، لا تغضبي مني فأنا أقول الحقيقة وحسب يا عزيزتي، هذه هي الحقيقة التي رفضت تصديقها طيلة عامين كاملين. 
حاولت مراراً إخبارك بهذا، حتى أصدقاؤك فعلوا لكنك وضعت أصابعك في آذانك وأدرت ظهرك كعادتك حين تسمعين ما لا يروق لكِ.
تذكرين صديقك ذاك، نعم هو إياه الذي كان يحبك بجنون ويساعدك في فهم هذه الحياة المعقدة. لقد تخلص منكِ أيضاً وارتاح، تخفف من حملك الثقيل ومضى وهو الآن يحب امرأة تُدلله ولا تتعبه يا عزيزتي. يُحدثها عنكِ أحياناً ويقول لها أنه سعيد بمعرفتها وأنها أجمل ما حدث في حياته وأن الله يحبه ولذلك أبعده عنكِ.
من يحتاج امرأة مثلك يا عزيزتي؟ 
لا أحد صديقيني لا أحد.
هناك نساء جميلات، وأقل ذكاءً وعناداً وفلسفة منك. لا يحتاج الرجال يا عزيزتي لدودة كتب نافقة، تحدثهم عن الشعر والأدباء الأموات وتبكي كلما فقد العالم شاعراً وكلما دُفن أديب.
لنقل هذا ببساطة، أنت امرأة مملة، فلا داعي للبكاء، لقد قال لكِ أستاذك في الجامعة مرة، أن البشر لا يحملون محارم ورقية لتجفيف دموعك كلما بكيت. فتوقفي عن التمثيل، لا أحد يصدق دمعك حتى لو كان صادقاً وحاراً كشمعٍ منصهر.
سأكمل لكِ عن النساء الجميلات، اللاتي من المفترض أن ذلك الرجل الذي تحبين يسهر معهن الليلة، يضحكون ويغنون -بالطبع أعني هنا الأغاني التي تظنين أنها سخيفة للغاية- وهل كنت تظنين يا عزيزتي أنهم سيقومون بغناء شعرٍ قديم وقصيدة ! 
تلك النساء لا يبكين، وهذه ميزة تجعلهن أفضل منك، ويجدن الإغواء كذلك، ولا يعرفن الفلاسفة ولا يحفظن شعر محمود درويش، ولذلك لا يحتاج الرجل للكثير من الجهد لكسب إعجابهن على عكسكِ تماماً. 
تعرفين ينقصك فقط نظارة سميكة تتناغم مع جديلتك الطويلة التي ما زلتِ تحتفظين بها كما لو أنكِ جئت من القرن الماضي. لقد ابتكر العالم قصات شعرٍ حديثة، ومستحضرات تجميل وعطور، وأنت ما زلت تحتفظين بجديلتك وعطر الياسمين الذي كانت تضعه جدتك، والكحل طبعاً.
حاولت مراراً تعليمك كيف تصيرين امرأة عصرية، وكنت تعودين لبدائيتك دائماً. وها قد خسرتِ كل شيء. والليلة، بينما تنتظرين تلك المكالمة الهاتفية، التي أعرف جيداً أنها لن تأتي، سوف يخونك ذلك الرجل مع امرأة عصرية، دافئة، هل تسمعين يا كتلة الثلج، امرأة دافئة وعصرية وجميلة.
اعذريني إن قسوت عليك، لكنني صريحة معك اليوم كما لم أكن من قبل، أحاول أن أفتح عينيك على واقعٍ لا تريدين رؤيته، أحاول إخبارك أنك هنا الآن، في غرفتك، تجلسين على الأرضية الباردة وتنتظرين بينما هو يسهر خارجاً دون أن يذكركِ.
لن أجزم وأقول أنه لم يحبك، فأنا أخشى التورط في النوايا. لكن هل تظنين أن من يحب أحداً بجنون-حسب قولكِ-، يستطيع الإبتعاد عنه كل هذا الوقت ويفضل إمضاء ليلة كهذه في الخارج برفقة الأصدقاء والنساء الغريبات !
لا أحاول قول شيء صدقيني، لكنه مجرد سؤال بريء، لا تفكري فيه كثيراً. ودعينا نمضي هذه الليلة الرتيبة.
العالم يحتفل بالخارج ونحن هنا في علبة كبريت. أنت تنتظرين وأنا أيضاً انتظر أن ينتهي انتظاركِ لننام، فأنا متعبة وأريد أن أغفو.
أرجوكِ توقفي عن هذا، لقد رأيتك حين أرسلت له تلك الرسالة، لا تحاولي مراوغتي فقد بِتُّ أعرف القصد من كل حركة تبدر منكِ. 
اعلمي جيداً أنه لن يتذكرك هكذا، فالرسالة التي قمت بإرسالها لن يقرأها هذا المساء، كما قلتُ سابقاً فهو منشغل الآن. لا تخجلي مني، كان عليكِ أن تصارحيني بما تقدمين عليه، فربما كنت سأخبرك بطريقة مجدية تَجذبه نحوك. لكنك تهورتِ وانتهى الأمر.
دعينا ننتظر إذن لنرى ما سيحصل.
**
عندما خرجت من المنزل في وقتِ متأخر، بشعري القصير المبعثر، وقدمي العاريتين، كانت الأضواء مطفئة، باستثناء الضوء الأخضر المنبعث من مئذنة الجامع. 
إمام الجامع الذي أصابته الدهشة حين رآني وأستعاذ بالله من الشيطان مراراً بينما كنت أتشبث بثوبه بأظافري المتسخة بالتراب. 
-لقد قتلتها يا سيدي، عندما دقت الساعة الحادية عشرة وثمان وخمسون دقيقة، سئمت من الانتظار اللا مجدى، وثبت عن السرير فوقها وأخرجت السكين التي كنت أخفيها وراء ظهري وطعنتها بها، طعنة واحدة كانت كافية للتخلص منها. كان جسدها بارداً، ولا أعلم إن كانت قد ماتت برداً أم أن السكين هي التي قتلتها.
أرجوك سيدي، عليك أن تفتح الباب الآن وتصعد إلى مئذنتك لتخبر الجميع بنبأ موتها. دعنا ننتهي من هذا سريعاً، لقد حفرت القبر تحت الشجرة، وتخلصت من جديلتها وشعر الأسود الطويل، كل شيء جاهز، علينا فقط أن نضعها في القبر ونعود إلى النوم.
هيا أرجوك، اصعد إلى الأعلى وقل لهم أنها أخيراً ماتت، قل لهم أن انتظارها انتهى، وأنني كنت على حق، فها قد بدأ العام الجديد ولم يتصل بها. 
هاهاهاهاها لقد كنت أعرف منذ البداية أنه لن يكترث بها، وأن وقته أثمن من أن يضيع دقائق منه في محادثتها، لا داعي للبكاء الآن، وجهي مبلل، يبدون أنني أبكي أو أنها تمطر. لا داعي للبكاء.
سأنام الآن، 
لقد تخلصت منها.
نبال قندس 2015

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة