لقد اختاروا لي قبراً - نبال قندس

لقد اختاروا لي قبراً. حدث هذا قبل عامٍ ونصف من الآن، وكان قبراً سيئاً على أي حال، فهو كافٍ لنصف طولي تقريباً وحتى إن تكورت وانكمشت على نفسي فلا أظن أن باستطاعته احتوائي
ليس هذا وحسب، فأنا كائن انطوائي وأحب الأماكن الهادئة وكان هذا القبر هو الأقرب للطريق. فقد كان يُطلُّ على شارعين، وكما لو أنهم يروجون لمحلٍ تجاري وليس قبراً كانوا ينظرون لهذه النقطة كعامل إيجابي. فقد كان أحمد يقول لي: "قبرك يطلّ على شارعين أحدهما شارع رئيسي، هل تتصورين هذا؟ لن تشعري بالوحدة، سيمر الكثيرون من هنا ليل نهار"
لكنني لم أستطع التصالح مع هذا القبر أبداً، لقد كنت أكرهه وأخشاه، وكل يوم حين أمر عشرات المرات من أمام المقبرة باتجاه موقع العمل ذهاباً وإياباً طوال النهار، كنت أحث الخطى مع بداية سور المقبرة حتى نهايته، كما لو أنني كنت أخشى أن يخطفني الموتى قبل الأوان ويدسونني في ذلك القبر الضيق. كما لو أن الموت لا يتواجد إلا في حدود تلك المقبرة! ليس هذا وحسب، لقد كان الجميع على علمٍ بأمر هذا القبر، فكلما زارنا أحدٌ كان يتبرع واحد من الزملاء بالتحدث عن قبري وشرح ميزاته. وعبثاً كنت أحاول اقناعهم أن هذا القبر لا يناسبني أبداً. حتى أن الهلع أصابني، وبتُّ أفكر أنني سأموت قبل أن تنتهي مدة عملي في ذلك المكان، وأن هذه المقبرة البعيدة عن مكان سكني، ستكون بمصادفة قدرية ما، هي مأواي الأخير.
وعلى الرغم من أنني كدت أموت كمداً مئات المرات، وبالرغم أيضاً من كل اللحظات القبيحة، الدامية، الموجعة، الصادمة والقاتلة التي مررت بها في تلك الفترة إلا أنني كنت أتشبث بالحياة كما لو أنها الجنة.
كنت أحافظ على رشاقة الحياة عناداً. وأحاول ما استطعت طرد هواجسي السوداء.
مع الوقت، قررت التصالح مع ذلك المكان، صرت أُبطئ من خطواتي يوماً تلو الآخر حتى تلاشت رغبتي في الهرب. ومرةً وقفنا، أحمد وأنا بباب المقبرة وتناقشنا طويلاً في فكرة تبديل قبري واختيار آخر، "أكثر رومانسية وهدوءًا" على حد قوله. وهكذا انتقل قبري إلى منتصف المقبرة في ظل شجرة بديعة.
لقد اتفقنا على أن بإمكاني أن أكتب هناك، وأن أسرد الحكايات على الجيران الذين سيحيطونني من كل جانب.
ولم أتخلص من خوفي

هذه هي الحقيقة التي لا شكّ فيها، ولهذا خطط زملائي لمقلب كوميدي يفتعلونه في آخر يوم عمل لنا. وكنت طوال الشهر الأخير، مترقبة لما يمكن أن يحدث! مجرد التفكير في الأمر كان سيفقدني عقلي.
في اليوم ما قبل الأخير، حدث شجار بين رجلين وقتل أحدهما الآخر، واشتعلت الدنيا في تلك البلدة الهادئة. وهربنا. هربنا جميعاً من الموت ومن رائحة التربة المنبوشة وغضب الفلاحين.
لم أعد بعد ذلك اليوم إلى هناك. ولا أعلم إن كانوا قد استولوا على القبر الخاص بي.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة