نصف ساعة فقط ..

استيقظ في ساعة مبكرة، تمتد يدي بتلقائية إلى يمين السرير لأتناول هاتفي المحمول عن المنضدة وأبدأ جولتي الصباحية في تطبيقات الهاتف المتعددة لأرى ما فاتني من أخبارٍ وأحداث. يحلو لي أن أبدأ من تطبيق الفيسبوك لأتفقد خاصية "On this day"

ألحظ أن الصفحة فارغة، فأعيد تحديثها مرة أخرى ظنّاً مني أن هناك خللاً ما في الموقع، لكن لا جديد.
ألحظ بعد دقائق أن لا خلل لكن لا يوجد شيء نشر في صفحتي في مثل هذ اليوم فأفكر:
- أيعقل أنني على مدار أربعة أعوام "وهو عمر حسابي على الفايسبوك" لم أكتب شيئاً؟ أعرف أن صمتي يعني أنني لم أكن بحال جيد. فأتوجس من هذا اليوم.
بعد عدة دقائق من التفكير اكتشف أن اليوم هو التاسع والعشرون من شباط وهو يأتي مرة كل أربعة أعوام. فتهدأ نفسي قليلاً. لكن الترقب يملأني تجاه هذا اليوم.

في الحافلة أقرأ كتاباً لإميل سيوران وأسمع بعضاً من الحديث الذي يدور في المقعد الخلفي بين رجلٍ وامرأة.
تصاب المرأة بالغثيان، ربما لأنها ليست معتادة على قطع المسافة الطويلة بين طوباس ورام الله وربما بسبب سرعة السائق.
أشعر بشكل ما أن هذه المرأة متعبة ولا أعلم كيف تتسلل لي فكرة الموت. ماذا لو ماتت هذه المرأة في الحافلة؟ ماذا لو حدث ذات يوم أن مات أحدٌ في الحافلة في وجودي؟
أطرد فكرة الموت وأعود لاكمال قراءة سيوران.
يرّن هاتف الرجل في المقعد الخلفي فيبدأ بالصراخ على مُحدّثه "طيب طيب" لكن محدثه لا يصمت فيظل هو يكرر "طيب طيب" والمرأة تتحدث في الوقت ذاته "شو صار؟ شو في؟" "احكيلي شو صار"

كما لو أن حدسها أخبرها وكما أيضاً لو أن الموت سمع همس أفكاري فسرقها وتوجه لقبض روح شقيق تلك المرأة.
تسأل المرأة عندما يغلق الرجل سماعة الهاتف:
- شو صار احكيلي
يخبرها الرجل الذي اتضحّ أنه شقيقها أن شقيقهما الآخر "مات"
هكذا بكل بساطة يقول لها:
- أعطاك عمره

هنا تبدأ المرأة بالصراخ والنحيب والعويل. فأفقد السيطرة على نفسي ولا أعود أشعر بجسدي وأشارك المرأة بكاءها.
تبكي هي وتصرخ:
- يا حبيبي يا أخوي، يا حبيبي يا أبو يوسف. جيت من الأردن عشان أشوفه.
فيصرخ فيها شقيقها ويأمرها بالصمت والهدوء معللاً الأمر:
- كلنا على هالطريق
لكنها تستمر في بكاءها.
- إلي خمس أيام هون، كل يوم بقول لكم خذوني أروح أشوفه.

يحاول الرجل تبرير الأمر كما لو أنه يعتذر لركاب الحافلة فيعيد ما قالته هي سابقاً "اجت من الأردن عشان تشوفه"
يا للأسف لم يحالفها الحظ.
لم يكونا بحاجة لأي تبرير أو عذر، كانت الرهبة تغشانا جميعاً. حاولت كثيراً أن أسيطر على عيني لكنني أدركت وقتها أن غيوم الحزن تُغرِقُ كل شيء. وأن الفقد يجلس إلى جانب كل واحد منا.
- قلت لهم يوم السبت، خلوني أفوت عنده، خلوني أشوفه، امسك ايده. قالولي ممنوع حدا يدخل عنده. الله يرحمك يا أخوي. الله يسامحك ويغفر لك يا أبو يوسف.
الحياة لا تنتظر أحداً، الموت لا يُمهل أحداً. الصدفة لعنة.
نصف ساعة كانت تفصلها عن رؤيته حياً. نصف ساعة ليست كافية. نصف ساعة من الموت. نصف ساعة من الحياة. نصف ساعة من البكاء ويومٌ كاملٌ من الحزن.

Comments

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة