أيلول رام الله


رام الله التي لم تعنِ لي شيئاً قبل قدوم صديقتي المقربة للعمل فيها تدرك تماماً أن المدن بالنسبة لي ترتبط بالأشخاص لا بالأماكن. وأنها اليوم ستعود كمان كانت؛ تتراجع إلى المجهول حيث لا أحد هنا أجلس معه في المقهى يومياً بعد انتهاء العمل لأُفرغ ما في رأسي وقلبي بينما تتصاعد رائحة القهوة في الهواء وتَفرغ الأكواب من السحر الأسود.
لم تكن رام الله مكاني الأثير، لكن الشهور الأخيرة جعلت لها مكاناً عميقاً في قلبي. برفقة صديقتي ازداد ارتباطي بالمدينة وبدأت تعارفي مع مدينة ظلّت مجهولة رغم مكوثي فيها لعامٍ كامل. الشوارع، الأشجار، مكتبة رام الله العامة، المطاعم التي ارتدناها، الأطعمة التي نغامر بتجربتها، الشوارع التي نمشطها بأقدامنا أيام الخميس. وكل الملامح التي اكتسبت بُعداً آخر.
والأهم هو المقهى الذي نلتقي فيه بشكلٍ شبه يومي و النادل الذي يعرف تفاصيلنا كما لو كان صديقاً لنا؛ يعرف من يحضر في موعده ومن يصل متأخراً على الدوام. هذا اللمَّاح يعرف أصدقائنا جيداً ويستطيع تميز صديقنا المقرَّب من بين العابرين من جلستنا معهم وتعابير وجوهنا. 
يحفظ عن ظهر قلب مشروبنا المفضّل وارتباطات حالتنا المزاجيّة بما نشرب وتفاصيل عديدة عن حياتنا اليومية.
محمد، صديقنا النادل، شابٌ لطيف يَعرف أنني عدت لوحدتي وتوحدي في رام الله الكبيرة بعد انتقال صديقتي لمدينة أخرى. 

أتردد في الذهاب إلى المقهى وحدي، لكنني أتذكر أنني لن أكون هناك وحيدة، فالنادل سوف يستقبلني بابتسامة على الباب ليخبرني أنني تغيبت عدة أيام ويسألني:

- قهوة؟ متل العادة

حسناً أفكر بشرب شيء آخر، يقول لي:

- يفترض بي استخدام كلبشة كي لا تغادري سريعاً.

على عجلة من أمري، كما لو أن حياة واحدة لا تكفي لفعل كل شيء، أركض ما بين مكان وآخر دون أن أمنح وقتي كاملاً لشيء واحد في وقت واحد. 
كم مرة دفعت ثمن قهوة لم أشربها وغادرت سريعاً؟ كم مرة انتظرتني صديقتي وقتاً طويلاً وحين أصل ما ألبث أن أغادر.
يسألني محمد اليوم عن طبيعة عملي ويتحدث عن عمله في المقهى، عن الوجوه المعتادة والوجوه الجديدة. يخبرني أن اسمه "محمد" وألحظ أنني أعرفه منذ وقت طويل دون معرفة اسمه أو أي شيء عنه. بينما هو يعرف الكثير من طباعي دون أن يعرف اسمي.
- نبال، اسم جميل.
يُحدثني أيضاً عن الفتاة التي تقدّم لخطبتها، عن المخيم، وعن الفترة التي أمضاها في السجن. يقول لي:

- تقرأين كثيراً. عندما كنت في السجن قرأت كتاباً واحداً لا أذكر الآن منه شيئاً لكنني احترم القراء.

يتركني برفقة أقلامي وأوراقي ليتبادل الحديث مع طاولات أخرى تَعجّ بالأصدقاء والعائلات.
على طاولتي قارورة ماء وكوب كابتشينو نصف فارغ ومقعد مقابل لا يجلس عليه أحد. 

أكمل رحلة الكتابة عن امرأة لم اختر لها اسماً حتى الآن.


Comments

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة