رسالة متأخرة

رسالة من فتاة كبيرة، ما زالت في السادسة عشر من العمر إلى القبر الثالث من اليمين في الجهة الغربية من المقبرة.
استيقظت فجر يوم رحيلك، على صوت والدي يتحدث همساً إلى أمي، واستطعت أن التقط اسمك من خلال حديثهما فسقطت عني كل بقايا النعاس وتحفزت كل حواسي مثل قطة شعرت بالخطر فانتفضت.
 
لم أشعر بشيء تلك الليلة، لقد نمت ولم يتناهى إلى سمعي صوت الرصاص في المخيم القريب. كانت ليلة تشبه سابقاتها بالنسبة لي، لكنها لن تكون أبداً مثل ليلتك أو الليالي اللاحقة التي لن تمرّ أبداً
 أراد الزمن أن يتوقف بعدها، كانت التواريخ تتغير لكن الزمن الخاص بي لم يكن يمضي، رغم أنني كنت أقف بجسدي النحيل في طريق الزمن في مُحاوِلةً يائسة لاعتراض طريقه وإيقافه.
 
دفعني الفضول لمغادرة سريري، كان والداي قد خرجا إلى الباحة لإكمال حديثهما خشية ايقاظنا. لحقت بهما حافية القدمين لأسمع أبي يكمل حكايته.
"اقتحمت فرقة من المشاة المخيم من جهة الجبل وتصدى لها بعض الشبان، فسقط عدد من الشهداء والجرحى.
اختطف جيش الاحتلال جريحاً من أيدي رفاقه وأخذوه معهم في الجيب العسكري"
 لم أستطع تصديق أن كل هذا قد حدث خلال نومي. لم أُرد تصديق أنك من بين الشهداء، وكما لو أن الكون يريد معاندتي انطلقت فوراً مآذن المساجد تُعلن أسماء الشهداء.
 
تذكرت بعد لحظات أن هناك شاباً آخر، يحمل اسمك، وَمضت الفكرة في رأسي مثل شهاب. إذن، قد يكون الأمر برمته مجرد تشابه أسماء، فلتبكِ فتاة أخرى غيري، المهم أن تكون حيّاً الآن!
بعد سنوات من رحيلك، وحين خفتت شعلة الذكرى المؤلمة قلت لنفسي، يا له من وغد، لقد ظننت طوال الوقت أنني أكرهه، حتى مات، اكتشفت كم أحبه، وكم يعني لي وجوده. لم أفهم حينها هذه التركيبة المعقدة المدّعوة مشاعراً، كيف لا يفهم الواحد منا مشاعره التي تخصه؟ أيعقل أن يكون الأمر بهذه الصعوبة، ألا تقدر على تحديد ما تحسّه تجاه شخص ما! أن تنتظر حدثاً ضخماً مثل الموت لتعرف أن هذه الكتلة العشوائية بداخلك، هي حب!
كانت هذه أول مواجهة لي مع الموت والفقد، لقد كان استشهادك أول ضربة موجعة تسددها الحياة نحوي. كنت صغيرة جداً على مثل هذا الحزن، هشة، ليّنة مثل عود أخضر، وهذه الضربة هرستني تحت وطئتها. كانت شيئاً يفوق طاقتي على التحمّل.
لقد تأكد الخبر، لا يوجد تشابه أسماء، لن يبكي أحدٌ غيري، سأحمل حِصتي من الحزن وأدخل غرفتي المشتركة مع شقيقتي وأبكي هناك حتى أموت.
 لقد كانت شريكة رائعة وشاركتني في البكاء، انتحبنا معاً، لساعاتٍ وأيامٍ وأسابيع، أنا أبكيك وهي تبكيني وأمي تظن أننا نبكي خوفاً من الموت.
ببراءة طفلتين حملنا كل أشرطة الأغاني المسجلة ووضعناها في علبة أحذية ثم رفعناها فوق خزانة الملابس.
 
لقد كانت أياماً مريعة، كلما حاولت النسيان، أرى صورك في كل مكان. في الشوارع، والحارات الضيقة وعلى واجهات البيوت والمحلات التجارية.
 طاردني شبحك في أحلامي لسنوات طويلة وحتى اليوم لا أعرف اللحظة الفاصلة التي صار بعدها موتك أمراً عادياً. لم أستطيع تحديد يوم وتاريخ نسيانك، أنا التي أظن أنني نسيت، أريد أن أبكي الآن، لأنني اكتشف للمرة الأولى أن الأمر ما زال يعذبني وأن الحزن الذي اعتقدت أنه خرج مني مثل شبح، ما يزال قابعاً في أعماقي.
كيف الحال هناك، في العالم الآخر أعني؟ أما زلت تذكرني؟
التوقيع:
 الفتاة التي لم تبكِ رحيلك كما يجب لأن البكاء حكرٌ على أقارب الشهيد، ولم تكتبك لأن الكتابة كانت فضيحة في ذلك الوقت ولم تَحكِ لصديقاتها عنك كما تستحق لأنها في وقت رحيلك، لم تملك صديقة واحدة تستحق أن تخبرها سرّاً كهذا.
ملاحظة: اغفر لي عدم توديعك، وحضور عزاءك وزيارة قبرك. أنا أخاف المقابر.

15 شباط 2017


Comments

  1. وين كتاباتك الجديده؟ الك ثلاث اشهز وداخلين بالرابع! عسى المانع خير

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة