لقد أضعتُ أمي



الإهداء



إلى علي دوابشة، إيلان كردي

وكل من أخذوا أسمائهم معهم إلى العالم الآخر.






(1)









لقد أضعتُ أمي.

هكذا بدأت أردد، كمن أصابه مسٌّ أو جنون، حين وجدت نفسي وحيدة على يسار الشارع السريع المؤدي إلى مكانٍ لا أعرفه. تركض السيارات أمامي دون اكتراث بملابسي المبتّلة ووجهي المُزرَقّ من شدة البرد والخوف. كدت أجن وأنا أبحث حولي عن ذلك المعطف الرمادي والوشاح الأصفر الذي يلفُّ عنق أمي. لم أبحث عن وجهها الذي اختفت معالمه تحت وطأة تعب الرحلة. كان الوشاح الأصفر علامة تميزها عن غيرها من الهاربين وكان معطفها ذاك المكان الأكثر أمناً على وجه الأرض من وجهة نظر طفلةٍ مثلي.

لم أجد أمي، كما لم أجد أي شخص آخر أعرفه ولم يبادر أي شخص بمد يدّ المساعدة لي. كان كل واحد منهم يحاول النجاة بنفسه وأطفاله. فالأطفال الذين كانوا في وقت السلم زينة الحياة التي يرغب بها كل الآباء، يريدون مباهاة الدنيا بطفلٍ قال "بابا" أو "ماما"، ويبكي كل محروم من طفلٍ يملئ عليهم سكون البيت، في الحرب يصيرون عبئاً على آبائهم.

كنت أصرخ "لقد أضعتُ أمي" وليس "لقد أضاعتني أمي". من منا أضاع الآخر؟ وهل من المجدي أن نسأل مثل هذا السؤال؟

عندما غادرنا المنزل، قلت لأمي أنني خائفة ولا أريد الخروج فقد رأيت في تلك الليلة أطياف طفلين قالا أنهما صديقاي وأن علينا البقاء في المنزل حتى لو اضطررنا للموت فيه. طلبت منها أن نبقى قليلاً حتى يعود أبي على الأقل. فماذا يمكن أن يفعل لو عاد ولم يجدنا في المنزل؟ من المؤكد أن أبعد فكرة ستأتي في باله أننا ذهبنا للمكوث عند بعض الأقارب ريثما تنتهي الحرب. فكيف سيعرف أننا سنرحل إلى ما هو أبعد من هذا بكثير، إلى بلدٍ تقول أمي انه بعيد جداً عن الحرب وأجمل من كل الأماكن التي زرتها في حياتي. وبوسعي هناك أن أعود للدراسة وأتعلم لغاتٍ أجنبية وأتعرف على أصدقاء جدد، نلعب معاً في ساحة البيت الجديد الذي سنسكنه. وأدعوهم أيضاً لتذّوق طعام أمي اللذيذ.

عندما أفكر بكل ما حدث، وأتذكر تفاصيل الحياة منذ اللحظة التي غادرنا فيها المنزل وحتى هذا اليوم، أشعر أنني أحكي حياة شخص آخر وأكتب عن طفلة رأيتها في الشارع أو على شاشة التلفاز. لا يمكنني أن أصدق أن هذه المأسآة هي حياتي أنا وأن تلك الطفلة البائسة التي أضاعت أمها هي أيضاً أنا. حاولت أن أكتب عدة سيناريوهات لحياة سعيدة افترض أنها حياتي وأحاول تصديقها لكنني فشلت.

لقد قال لي صديقاي الصغيران عندما زارا منامي ليلة الخروج الكبير، وهذا هو الاسم الذي بدأت أطلقه على تلك الليلة، إن الأطفال الذين يموتون أو يتشردون في الحرب يصبحون مشاهير. وأقصى ما يمكن أن يمنحه العالم لهم، مئات أو آلاف الصور على شبكات التواصل الاجتماعي والشبكات الإخبارية. يصيرون وجبة دسمة للمقالات والقصائد والتصاميم واللوحات، نجوماً لعدة أيام ثم ينطفئون. لقد مرّ كلاهما بهذه التجربة، حين مات أحدهما حرقاً على يد الاحتلال والآخر غرقاً أثناء هروبه من الحرب.

*******

يمكنني أن أعترف الآن، أنني كلما أغلقت الحياة أبوابها في وجهي، شغّلت محرك سيارتي وانطلقت إلى ذلك المكان، حيث تُهتُّ للمرة الأولى في هذا البلد.

ظللت أعود إلى هناك، امرأةً رأت من الحياة ما رأت وقاست بقدرٍ لا يستطيع أحدٌ لم يعش تجربتها أن يتخيله. أتكئُ بجسدي النحيل على الحاجز المعدني الذي يحدد مسار الشارع وأفتح صدري للطفلة الصغيرة فتنطلق هاربة من بين ضلوعي بحثاً عن أمها. تجوب الشارع مئات المرات وتعود في كل مرة صفر اليدين لتدخل صدري مجدداً وتبكي هناك، دون ضجيج يُربك الاسفلت و السيارات المسرعة.

كبرت ولم أتجاوز اليُتم الذي قذفتني به الحرب. وبقيت استيقظ كل يوم وفي قلبي اقتناع تام بأنني سألتقي مصادفة أمي وأبي هناك يبحثان عني. لم أتوقف عن انتظار هذه اللحظة على مدى السنوات الطوال التي قضيتها في هذا البلد.

لم أجرؤ يوماً على المغادرة حتى ولو لرحلةٍ قصيرة خارج حدود الدولة التي تُهت فيها قبل أعوام. لقد حصلتُ على عدة تأشيرات وجوازات سفر ومنح دراسية، وفي كل مرة كانت الكوابيس تنهش أحلامي فأتراجع فوراً عن أي محاولة للسفر.

ماذا لو عادت أمي ذات يوم؟

في الشهور الأخيرة لنا في منزلنا كان السؤال الدائم: ماذا لو عاد أبي ولم يجدنا في المنزل؟ وأرادت الحرب أن تضيف لذاكرتي ملايين الأسئلة الأخرى والتي كان أبرزها، ماذا لو عادت أمي ذات يوم؟ ماذا لو كانت هي الأخرى تخرج يومياً للبحث عني؟ ماذا لو كانت تبكي الآن لأنها غفلت قليلاً وأضاعتني؟ ماذا لو ماتت حزناً وكمداً لأنها لم تمسك يدي جيداً ولأن المطر والسيول والفوضى كانوا أكبر من قدرتنا على الالتصاق بعضنا ببعض.

تلك الذكرى المرعبة لم تبارحني أبداً. وبقيت أخشى المطر واختبئ كلما تلبّدت السماء بالغيوم وانكمش تحت أغطية السرير بالرعب ذاته الذي ملأ قلبي في طفولتي حتى فاض. لم استطع التصالح أبداً مع الشتاء ويصل الأمر أحياناً إلى درجة أنني اتغيب عن العمل كما كنت من قبل أتغيب عن المدرسة والجامعة في الأيام التي يشتد فيها المطر.

اضطرني هذا الشرخ العميق في نفسي أن أزور عشرات الأطباء النفسيين وأخضع لشتى أنواع العلاج لأتغلب على الحالة الهستيرية التي تصيبني كلما بدأ الشتاء. لكن شيئاً لم يتغير. العلاجات التي كانت تعتمد بشكل أساسي على وضعي وجهاً لوجه أمام مخاوفي، كأن أوضع في غرفة مغلقة من تلك الغرف التي تخلق فيها مؤثرات صوتية ومرئية لأجواء عاصفة كادت تسبب لي الجنون، لم أمكث في كل مرة أدخل فيها تلك الغرف أكثر من خمس دقائق يغمى عليّ بعدها ويضطرون لإخراجي على وجه السرعة من ذلك المكان قبل أن أفقد ما تبّقى من قواي العقلية.

يعتقد أصدقائي _على قلتهم طبعاً_ أنني محظوظة لأنني نجوت من الحرب ولم أمت تحت أنقاض بيتٍ أصابه برميل متفجّر أو غرقاً في قوارب الموت، كما أنني لم أمت جوعاً، ولم يفتك بي مرضٌ من الأمراض التي تهاجم البلاد المنكوبة وأيضاً لم تُصبني رصاصة طائشة من بندقية قناص يشعر بالضجر. قال لي أحدهم مرة:

-          أنت أكثر حظاً من مئات الآلاف الذين ماتوا في الحرب، قمة الترف أن تخرجي من الحرب بجسدك كله، فالذين لا يموتون لا يصادفهم الحظ دائماً ليتحفطوا بأجسادهم دون بترٍّ هنا أو هناك.

لم أكن أعرف كيف أجيب على كلامٍ كهذا، فمن الصعب أن تشرح لشخصٍ لا يعرف عن الحرب إلا ما يراه مصادفة على شاشة التلفاز بينما يقضم قطعة البيتزا اللذيذة ويشرب رشفة أخرى من كأس العصير ويقلّب بين المحطات ليصل إلى تلك التي تبثه برنامجه الكوميدي المفضل، أن الحرب ليست الثواني القليلة التي يمرّ فيها على قناة الأخبار بينما يُقلّب القنوات بلا مبالاة. هناك خسارات كبرى لا يسهل شرحها ونعرف جيداً أن لا أحد سوانا يستطيع فهمها. أردت أن أقول مراراً ، ليس الجسد وحدة من تبتّره الحرب. هناك حرب تبتر الروح والقلب والعقل، بترُّ يظلّ ملتصقاً في الذاكرة ليعذبك كلما وضعت رأسك على الوسادة.

لقد آمنت منذ وقتٍ طويل، أن الأحلام الوردية لا تَخصّنا، هي شيء بعيدٌ، أبعد من أن نناله بعد أن استوطنت الكوابيس لَيلنا. شخصياً، نسيت متى كانت  آخر مرة رأيت فيها حلماً جميلاً، حتى بتُّ أعتقد أنني لم أرى في حياتي أي حلم. ربما قبل الحرب، لكن، هل أنا قبل الحرب، هي أنا بعد الحرب؟

لم أنجح في اكتساب الأصدقاء طوال كل هذه الأعوام، خوفي الذي يصل إلى الهستيرية في بعض الأحيان كان يُرعب كل من حولي وبهذا ازداد انغلاقاً ووحدة ويزداد الآخرون بُعداً وتمتد بيني وبينهم آلاف الأميال والسنوات.

عندما كنت في الثامنة من عمري قال الطبيب النفسي لوالدّي بالتبني أنني مع مرور الوقت سوف أنسى كل شيئ، بلدي القديم، والدي الذي خرج ولم يعد، والدتي التي انفلتت من بين أصابعي على الحدود، رحلة التشرد، قوارب الموت، الجثث الطافية على الماء، الصراخ في عرض البحر والنداءات التي تتشبث بحبال الله.

لم تُجدِ جلسات العلاج النفسي نفعاً مع حالتي المستعصية، ظللت استيقظ بسروال داخلي مبلل ووجه ازرّق من الرعب حتى بلغت الثانية عشرة من العمر. في ذلك الوقت كانت والدتي بالتبني تتشبث بي كما يتشبث الغريق بقشة طافية على سطح الماء بينما كدت أسبب الجنون لزوجها الذي كان يرفض وجود طفلة تسبب الإرهاق والإزعاج للعائلة في حين يمكن تَبني طفلة تبث المرح في أرجاء البيت.

كلما صرخت في الليالي المظلمة كانت تهرع إليّ، تحتضنني وتمسح على رأسي وتغرقني بالقبلات وتدمدم بكلماتٍ لا أفهم منها شيئاً. لكنني كنت أهدأ وأغفو بين ذراعيها.  بعد أعوام، عندما بدأت أعي حاجتها للأمومة حاولت تمثيل دور الابنة لكنني فشلت بعد عدة محاولات لم أجن خلالها إلا مزيداً من التعاسة تقاسمتها معها حتى كفّ كلانا عن المضي قُدماً في هذه اللعبة الخرقاء.

أين كانت أمي في ذلك الوقت؟ هل صارت خلية صغيرة في جسد حوتٍ ضخم؟ أم أن جثتها طفت على سطح الماء ؟

هل انهرس جسدها تحت عجلات الشاحنات المسرعة بينما كانت تجوب الشوارع بحثاً عني أم أنها تعيش في مكان ما الآن وتصرخ في أذن الله أن يعيدني إليها.

لماذا غادرنا المنزل؟

أريد أن أعود الآن إلى منزلنا، أن يعود الزمن قليلاُ للوراء لأضغط على يدها وأعيدها إلى حيث كان يجب أن نبقى بانتظار أبي أو أو إحدى القنابل التي تتساقط علينا مثل مطرٍ غزير.

أنا المرض النفسي الذي أصاب العالم، أنا وجهه المشوه، الذراع المعطوبة، والقدم المبتورة للعالم. أنا الندبة التي تخشون الوقوف أمام المرآة بسببها. أنا الكابوس، كابوسكم جميعاً.

أنا محصلة ما بقي لكم من أعوام الحرب.

لقد كان وجهها شاحباً في ذلك الصباح، لقد بدت كمن سيموت بعد ساعاتٍ على أبعد تقدير، وفي عينيها انطفئت آخر شعلة. كانت متعبة كما لو أنها جمعت تعب خمسة وثلاثين عاماً وكدّسته حتى هذه اللحظة لكي تموت لسببٍ يستحق موتها.

ربما أدرَكت في ذلك اليوم أنها كذبت على أبي كل يوم عشرات المرات حين كانت تقول له أننا لن نموت وأن الحرب ستمرّ من جانبنا كما لو أنها لا ترانا، لأننا لم نتّبع أيّاً من المتنازعين.

-          عليك أن تفهم، هذه ليست حربنا، لا علاقة لنا بكل هذا الجحيم. لسنا طرفاً في هذا الصراع.

لم تكن تفهم أن الذين يقفون على الحياد هم وقود الحرب وأن كل الأطراف سوف تدوس على ذلك الذي يقف على حاشية الطريق.

نحن وقود النيران المشتعلة، نحن حطب الحرب وعلينا أن نموت ليتراشق الآخرون الاتهامات، على موتنا أن يستمر إلى مالانهاية.

رحلت قبل أن تتيح لي فرصة ابداء رأيي في هذه الكوميديا السوداء، رحلت دون تلويحة وداع أو حضن، حتى ولو كان بارداً. رحلت تلك التي كان يفترض أن تبقى طويلاً، تبقى وإن رحل الجميع، رحلت قبل الجميع وقبل الأوان.

لقد كبرت، ولم أعد أشبه الطفلة الضائعة ذات الستة أعوام. طال شعري وقامتي وصرت تماماً مثل أمي التي تقف وتدندن لحناً لأغنية لا أعرفها. وكلما وقفت أمام المرآة وتأملت وجهي وجسدي ، كدت أمسك يدي وأصرخ: أمي!

لقد كنت أشبهها بشكلٍ لا يصدق وفي إحدى المرات، بينما كنت أتجول في الشوارع لمحتها أمام أحد المحال التجارية وحين هرعت نحوها لأمسك بها قبل أن تختفي وجدت نفسي التصق بزجاج الواجهة.

من حسن حظي ربما، أن الزجاج كان مضاداً للصدمات ومن سوء حظي أن هذا الزجاج لا يمكن أن يحمل إلا انعكاس صورتي ولا شيء آخر.

بعد ذلك اليوم ونتيجة الاحراج الذي تسببت به لنفسي توقفت عن الخروج من المنزل لأسبوعين وبعدها صرت أتجنب النظر إلى الواجهات العاكسة كي لا أضيع أمي مرة ثالثة  ورابعة وخامسة

لقد كان مرعباً أن يتكرر الأمر عدة مرات وأن أبدو مثل مهرج ثمل يحتضن انعكاس صورته في المرايا والواجهات الزجاجية. لست نرسيس ولا يمكن أن أكونه، لن أسمح لنفسي بالغرق مرة أخرى في صورة جسدي.

أنا امرأة ستبلغ قريباً عامها الثلاثين وما زلت تحمل بداخلها طفلة السادسة، لا تمتلك أي مواهب تذكر، لا يميزها عن الآخرين شيء، لم تتزوج حتى اليوم، لم تصادق أحداً لأكثر من عام واحد. لم تعش قصة حب واحدة. لا صديقات، لا أقارب، لا معارف، لا زملاء عمل. فقط عجوز في نحو الستين من عمرها تزورني بين حين وآخر لتطمئن عليّ وترتب لي المنزل الكئيب وتحضر معها الخضار واللحوم والفواكه والمعلبات والمربى الذي تعدّه بنفسها من الفواكه الطازجة التي تقطفها من الحديقة.

كانت تستحق أن تكون أماً عن جدارة، لكنني لم أكن أصلح لأن أكون طفلة أو ابنة لأحد.  كما لم يتمكن أي شيء في العالم من مَلأ الحيز الذي تركته أمي.

الصورة  لطفلة سورية تبكي وتسير تحت الأمطار بعد أن أصبحت تائهة لوحدها على الحدود بين مقدونيا واليونان.

Comments

  1. يا الله يا نِبال

    ReplyDelete
  2. Interesting post. God thanks for translate.

    ReplyDelete
  3. كلماتك آسرة ، أشعر بوخزها في صدري !

    ReplyDelete
  4. This comment has been removed by the author.

    ReplyDelete
  5. اااخ كم هي مؤلمة ،، ضعت معها ،، تركتني تائهه معها في اللامكان واللازمان

    ReplyDelete
  6. اااخ كم هي مؤلمة ،، ضعت معها ،، تركتني تائهه معها في اللامكان واللازمان

    ReplyDelete
  7. وجعتيني يا نِبال💔
    بس برضو شكراً من القلب 💜

    ReplyDelete
  8. أبكتني ، ابكت قلبي💔

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة