حكايتي الأولى مع الفقد


أفكر فيها بين حين وآخر، تقفز الذكرى في ذهني بلا مواعيد محددة، كما لو أنها قطعت عهداً فيما مضى أن تظل حاضرة في خيال الطفلة التي ودّعتها وسط سحابة الدموع.

لا أذكر كم كان عمري حين رحلت، أربعة أعوام؟ خمسة ربما؟ لن يكون هذا الرقم مهماً بقدر أهمية أن هذه كانت تجربتي الأولى مع الفقد، القطعة الأولى التي انفصلت من قلبي، كما لو أنه جسرٌ خشبي يصل بين مكانين كلما انفصلت إحدى قطعه صار الوصول أكثر صعوبة، لقد كانت المرة الأولى التي لا تُنسى، المرة الأولى التي تترك ندبة في القلب، الدموع الأولى السخية على شيء يستحق البكاء، اللحظة التي يدرك الواحد فينا بعدها أنه بات يعي ما يحدث حوله، اللحظة التي لا يعود الطفل بعدها طفلاً بل يدرك أن عليه أن يكبر ويواجه المزيد من فظاعات العالم.

يقولون أنها كانت بمثابة أمي، وكلما ذُكِرت من قبل أحد أفراد العائلة، تطفو على السطح فوراً حكايات تعلقي بها، وعن كَمِ الدموع الذي بكيته عند رحيلها. لا أذكر إن كنت قد بكيت على مرّ الأعوام كما بكيت في ذلك اليوم، لكن استطيع أن أجزم أن شعوري حينها لم يتكرر، ربما كنت أعرف بحدس الطفلة أن هذا الرحيل سيكون أبدياً -تقريباً- فبعد ذلك اليوم الذي خرجت فيه من منزل العائلة بفستانها الأبيض انسحبت من حياتنا وصارت شيئاً نائياً وبعيداً بحيث أستطيع أن أحصي عدد المرات التي التقيتها فيها منذ ذلك اليوم على أصابع يدي، لقاء غرباء لا يوجد لديهم من الوقت ما يكفي للمرور ولو سريعاً على ما حدث خلال كل أعوام الغياب.

لم تكن هنا، في بيت الجدة  الذي يجمعنا في الأفراح والنجاحات، لم نبكِ معاً في الأيام الصعبة التي سحقتنا كما لم نكن نحن بدورنا هناك، في كل ليلة من لياليها الطويلة في الصحراء البعيدة.

لا أدري كيف أمضت تلك الأيام التي صارت أعواماً، لا أمتلك أدنى فكرة عما مرت به ولن استطيع أبداً مهما كبرت أن أفهم كيف يمكن أن يخرج أحدهم من حياتنا هكذا وتستمر الحياة بعده. لقد تفرقت بنا السُبل ولم تستطع حتى التكنولوجيا التي جمعت كل شيء تحت مظلتها أن تنتقص شبراً واحداً من المسافة التي بيننا، كما لو أن هناك استثناء، هو نحن، افترض علينا أن تزداد المسافة مع كل يوم، وأن لا تتمكن الطفلة من فهم ما حدث.

إلى الغالية، الغالية على القلب دائماً رغم أنها لم تكن هنا منذ ما يزيد على العشرين عاماً، إلى القطعة الأولى التي انفصلت عن الجسر الذي هو قلبي، إلى الأم الثانية التي لم يأخذ مكانها أحد، والتي ظلت حاضرة في قلبي رغم المسافات وانقطاع سبل التواصل، إلى العمّة التي رحلت ذات يوم إلى الصحراء، وتركت اسمها "بسمة" معنا ليكون ذكرى رغم الدموع. 

*إلى عمتي البعيدة التي فقدت اليوم زوجها وتعيش حزنها وحيدة بعيداً عن العائلة. 

Comments

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة