هو: "رحلت وانتهت الحكاية. لم تعد أصابعي قادرة على العزف. تبعثرت من ذاكرتي سيمفونيات كنت اعزفها منذ نعومة اظافري، هجرت قلبي وهجرت عزفي من بعدها. كلما انظر الى البيانو في زاوية الغرفة، قد تكسر وتراكم عليه الغبار، أذكرها تجلس بجانبي سادلة شعرها الناعم وباسمة. اعزف لها، اختفت الموسيقى التي كانت تصدح بالبيت وأصبحت أسمع صدى الماضي عندما كانت معي. أصابعي ترجف آخر كل نهار، تريد ان تعزف. رميت أوراق السمفونيه؛ كنت قد الفتها لها في بداية عشقنا. أخذت معطفي الاسود الذي أهدتني، لم ادرك أنني قد قمت بارتدائه الا بعد حين. خرجت في الجو العاصف لمراقبة أمواج البحر. ما اجملها إسطنبول وقت البرد والشتاء، تشعر بأن جسمك قد يتجمد لكنك تبقى متشبثاً بمعطفك أمام برد الشتاء وكلما لمستُ معطفي أتذكرها فتتساقط دموعي. بالامس كنتِ كعصفورة بين ذراعي واليوم بتُّ وحيدا، اكفكف ما بقي من دمعي، وما بقي من الليل، فقد مر الوقت سريعا وعدت الى منزلي."

هي: "يرتجف القلم بين أصابعها بينما تحاول ترتيب أفكارها العاصفة على الورقة الفارغة. تشعر أن هناك إعصاراً يجتاحها، يبعثرها، ينثرها رماداً على الطرقات. تكتب الكلمات الأولى من رسالتها التي ما زالت لا تعرف حتى الآن لماذا تكتبها وماذا ستكتب فيها! تتذكر خطواتك عندما تعود من عملك في ساعة متأخرة، تفتح باب الغرفة وتلقي عليها نظرة دافئة. تغمض عينيها سريعاً وتدّعي النوم بينما تغلقُ أنت الباب عائداً إلى الصالة. لم تكن تعرف أي عذرٍ ستسوق لكَ، لتبرر رحيلها الذي سيباغتك وربما "سيقتلك".

هو: "حاولت أن أغلق عيني لأغفو لكن عمق التفكير كان يغلبني، تمنيت طيلة اشهر لو كانت ذكرياتي تختفي مع اشراقة الشمس فجراً بعد ليلة حنين قاسية. لكن هيهات، فالذكريات رافقني لأيام وأسابيع. أراها بكل زوايا المنزل، اسرح واسمع صوتها تناديني: 
- أنا هنا .. أنا في الطابق العلوي
ابتسم لسماع صوتها بعد تعب كل يوم شاق. لكنني الآن بتُّ اسمع تكتكة المفاتيح وصوت خطواتي عند الصعود وأتمنى لو يتناهى إلى سمعي صوتها، تنادي مرة أخرى 
- أهذا أنت ؟؟!! 
لم أعلم أن حماقة المرأة تزدداد كلما أشبعتها حباً، كأنها قنبلة موقوته صمامها الحب. أهي حماقة النساء جميعاً أم كان عشقي لها يختلف عن عشق اي رجل !! ما عذرها ! ذهبت تاركةً رسالة حاولت قراءتها لكن كلما اقرأ جزءًا منها تنهمر دموعي عليها فتمحي ما كتبت من كلمات.
ﻻ بدَّ أنها لا تعلم بأنّي أعاني ألمين الآن: ألم خوفي عليها وألم فراقها."

هي: "كان جنونها بقدر جنونك وأكثر. للنساء رصيد من الجنون لا يبلغه أي رجلٍ مهما وصل مدى جنونه. عندما أغلقت عينيها محاولةً السيطرة على أفكارها التي تتسابق في ماراثون، باغتها وجهك مضيئاً مثل بدر ليلة صيفية. كيف تترك رجلاً أحبته بهذا القدر ؟ كان هذا السؤال يتكرر في رأسها، يدّق طبولاً إفريقية وتبكي تبكي كثيراً تبكي حرقة، ثم تُتمتم في سرّها: -"هذا أفضل له" "عليه أن ينسى المرأة الحمقاء التي سرقت قلبه" ثم يزورها سؤال آخر "وأنا كيف أنساه" تتنهد بعمق ولا تجيب على نفسها، تترك القلم والورقة على المنضدة، تغادر غرفتها بهدوء وبقدمين حافيتين تجابهان برد الأرضية، تنزل درجات السلم حيث وجدته نائماً "يحلم بها ربما" تضع يدها على رأسه، رأسها على صدره لتحاول سماع ذلك النغم الذي يصدره قلبه تطبع قبلة صغيرة على جبينه وتعتذر. تعتذر على جفائها معه خلال الأيام الماضية، تعتذر عن المشاكلات التي أثارتها دون أيما سبب مقنع، تعنذر على عصبيتها المفرطة وعلى صدودها. لا يستيقظ فتتركه يكمل نومه. يبدو منهكاً كمقاتل عاد من الحرب وتعود لغرفتها لتكمل رسالتها إليه.لا تكتب الكثير "أحبك، وآسفة" تتبعها بعبارة أخرى "هذا أفضل لكلانا، يوماً ما ستعرف لِمَ رحلت" تطوى الصفحة البيضاء، تضع فوقها قنينة العطر لتثبتها في مكانها ثم ترتدي فستانها الأسود ومعطفها الطويل وتخرج. تكتشف أثناء خروجها في ذلك الليل الماطر أنها لا تمتلك مظلة. أليست هي ذاتها التي اتبعت مذهب كره المظلات. كانت تقول لك دائما أن المظلات خدعة رجل لا يريد أن يغطي حبيبته بمعطفه وأنت كنت رجلاً كريماً لطالما احتضنتها في الأيام الباردة والماطرة وخبأتها في معطفك وركضتما سوياً كالمجانين تحت المطر. تنادي الطفل الصغير الذي يبيع الزهور في الشارع وتبتاع منه كل الورد الذي معه وتقف أمامها كعاشقٍ ولهان، تنحني على ركبتك ولا تكترث للوجوه التي تحدق بكما، وتصرخ بأعلى صوتك "كل هذا المطر والورد لكِ يا حبيبتي"
تنظر إليكما سيدة بدينة بغضب وغيرة بينما تحاول اللحاق بزوجها الأناني الذي يحاول الهرب من المطر وحده. لطالما كنتما محط أنظار الجميع، حتى أقرب الناس إليكما، كانت تنهشهم الغيرة من هذا التوافق والحب الذي لا ينضب، كانت ترقيك دائما بآيات من القرآن الكريم وتدعو لك طوال الليل وفي كل وقت لاستجابة الدعاء. لماذا زارها المرض الآن ليفرقكما بعد أن فشل الجميع في محاولة الحيلولة بينكما؟
سوف تغادر البيت أثناء استغراقك في النوم ولن تعرفَ إلى أين تتجه في هذا الوقت المتأخر ستأخذها سيارتها أو على الأرجح سيقودها قلبها للمقهى الذي كنتما تجلسان فيه. كانت النادلة تجهز نفسها للمغادرة، لكنها حين تراها ستعيد فتح المقهى من جديد. سوف تتناول منها معطفها الخمري وتحضر لها كرسياً على طاولتكما. الطاولة القريبة من الواجهة الزجاجية
. -كوبان من القهوة لو سمحتِ.
ظنت النادلة أنكَ ستلحق بحبيبك كما كنتما تفعلان دائماً، وفوجئت حين وجدتها تشرب فنجانها وتغادر تاركة الفنجان الآخر ممتلأً.
قادتها قدماها في تلك الليلة إلى المنزل الذي قررت أن تقطن فيه حتى تنتهي عمليتها الجراحية. كانت قد جهزت كل شيء لتلك الليلة، ليلة الهروب وكانت خائفة من فكرة ترك الرجل الذي تحبه ورائها. وجوده إلى جانبها سيكون كفيلاً بمنحها قوة هائلة لمقاومة المرض ، لكنها تعرف أن ألمها سيؤلمه بقدر ما يؤلمها وأكثر، ولذلك قررت مواجهة قدرها وحدها. قررت حمايته من رؤية حبيبته تذبل كزهرة وتموت بين يديه. حين خرجت من غرفة العمليات كانت بين الغيبوبة واليقظة تردد اسمه رغم انفاسها المتعبة. تهذي به في أغلب الليالي حين يأكلها البرد والوجع. تقترب صديقتها منها وتهمس في أذنها: "هل اتصل به؟ هل اطلب منه الحضور آلى هنا"
فتصرخ بها كأنها استعادت كل قوتها للحظات "لاااااا لا تفعلي ذلك أبداً" "لعله نسيَّ الآن واكمل أيامه دوني"
لكن الحنين قادها ذات ليلة للاتصال به. كانت اضعف يومها -هي التي واجهت وجعاً لا تحمله الجبال- من أن تحتمل وجع الحنين والشوق لرجل تحبه.
أغلقت السماعة سريعاً كأنها تهرب مرة أخرى وتركته معلقاً على سماعة الهاتف في الجهة المقابلة.
لعنت نفسها كثيراً ذلك المساء لأنها اتصلت به. لكن حبها كان أكبر منها. أكبر من ارادتها واصرارها."

هو: "رن هاتف المنزل عاليا، هرعت مسرعا للاجابة هي : اشتقت اليك ... تتكلم وتبكي وأنا صامتٌ وقد عجزت عن التنفس، نعم انها هي وأول كلماتها اشتقت اليك. ظنت بأن خط المكالمة قد انقطع حين بدأت تبكي. -ماذا فعلتِ .. اشتقت إليك أيضا وكأن الزمان توقف .. كل واحد منا يسمع شهيق الاخر. لم أدرك ماذا أقول وهي ماذا تقول. أأعاتبها وأسألها اين أنتِ؟ كيف صحتك ماذا حدث! همستْ بضعف: 
-أحبك أغلقت الهاتف. 
وبقيت واقفا كالصنم ممسكاً سماعة الهاتف ما يقارب الساعه. أبكي وأردد - وأنا أيضا وأنا أيضا أحبك هو ذل الحب والعشق يصل بك الى حد ترى انك قد تستغني عن نفسك لكن ليس عمن تحب. طوال الليل أمام النافذة أفكر بها، أريدها بقربي .. سنجتاز الصعاب معاً. محدقاً بصورتها 
-أريدها أريدها 
إلى أن غافلني تعب العشق ولم أدرك نفسي إلا صباحاً حين وجدت نفسي نائماً على كرسيي بجانب النافذة.
أشرقت شمس الصباح. لكن شمسي غائبة منذ عدة شهور. لملمت نفسي او ما تبقى منها وقررت الذهاب بحثاً عنها. كالتائه. وكما يبحث أبٌ عن طفله الضائع. يوماً بعد يوم أفتش عنها. مر ما يقارب ال 20 يوماً، ولم أتعب ولم أيأس من البحث. جلست في سيارتي انتظر هدوء المطر وبينما أنا شاردُ الذهن تذكرت مكاناً ما. ابتسمت ابتسامة كانت الاولى منذ عدة شهور ورددت في سري "ربما هناك .. ربما هناك" "يا لحماقتي لماذا نسيت ذلك" "كأن ذلك العشق يجعل ذاكرتك تعاني".

هي: "بعدها في صباح ماطر، كانت تشعر أن قوة ما سرت في جسدها الهزيل. طلبت من صديقتها أن تضع لها كرسياً خلف زجاج الشرفة لتنظر إلى المطر. قالت لصديقتها:"أظن أنه سيأتي اليوم، سيقوده قلبه إليّ، قلبي يحدثني بذلك" وجاهدت الصديقة لاخفاء دمعتها حين سمعت هذا الكلام.
لكن الضعف الذي اصابها يبدو أنه لم يستطع أن يصل قلبها. فما زال قلبها قوياً في حدسه وشعوره بالرجل الذي سكنه. قشعريرة سرت في جسدها حين سمعت دقات الباب. كان قلبها يخفق بقوة وهي تسمع الخطوات على درجات السلم الخطوات التي لم تنسها أبداً خطوات الرجل الذي تحب وتعشق.
وتذكرت في تلك اللحظة كيف كان لقاؤهما الأول. كانت تردد دائماً "الذين يجلسون قبالة البحر يديرون للحياة ظهرهم" ولطالما آمنت بهذا. ولذلك بعد أيامها الشاقة الطويلة. تهرب إلى البحر. تحمل الكمان في يديها وتتأمل السماء حين تلتقي بالأرض عند حافة البحر في خط الأفق.
وغالباً، حين يهمس البحر في أذنها شوقاً للموسيقى. تخرج الكمان من الحقيبة السوداء، تبعد خصلات شعرها الطويل إلى الجانب الأيمن من كتفها وتضع الكمان على الجانب الأيسر لتبدأ حديثا طويلا مع البحر حديثا لا ينتهي إلا حين يحل الظلام ويبرد فنجان قهوتها فيياغتها هاتفها الذي لا يتوقف عن الرنين في ذلك اليوم لم تتوقع شيئا مختلفا كانت تظن أنها ستعيد ما تفعله كل يوم ستعيد الطقوس ذاتها لم تعرف أن القدر يخبئ لها مفاجأة أخرى وأنها ستلتقي نصفها الآخر لا بل ستتعثر بقدرها أمام البحر في المقهى الذي تحب. اربكتها نظرته كانت تخشى أن تطيل النظر في عيني أحدهم، تعلم أن عينها ستفضحها وأن الذي سينظر إليها من هذا القرب سيقرأ ما في قلبها وسيرى أعماقها ودهاليزها الخفية. بعد لحظات شعرت أنها دهراً وهرباً من النظرة التي لم تكن عادية ولم تكن عابرة أبدا حملت حقيبتها السوداء ومعطفها وذهبت تكمل حديثها مع البحر وكأنها الجاذبية لم يستطع إلا أن يحمل فنجان قهوته ويتبعها ليراقب أناملها تحيك على أوتار الكمان لحناً دافئاً"

هو: "أشعلت محرك سيارتي وذهبت متجها الى كوخ على قمة الجبل. لها صديقة تعيش وحدها منذ وفاة زوجها هناك بالطريق مردداً .. ليتها هناك ليتها هناك 10 دقائق لوصولي حسبتها كأنها 10 سنوات طرقت الباب خائفاً مرهقاً مترقبّاً. كل تلك المشاعر اختلطت عليَّ. واذا بصديقتها تفتح الباب مرحبةً بي. لم أرد على ترحيبها. بل سألتها مرتبكاً "أهي هنا؟" سمعت صوت بكائها في الطابق العلوي وهرعت إليها كأنني ابن الخامسة عشرة. لم انتبه لخطواتي. كانت لهفتي تقودني. فتحت باب غرفتها، اقتربت منها واحتضنتها وبكيتُ بين يديها. كأنها اعادتني لبداية طفولتي. لم اعاتبها لم اوبخها. اكتفيت بقول "ﻻ تتركيني ﻻ تتركيني انا احبك جدا" وهي تبكي وتقول لي "اشتقت اليك .. وانا أحبك أيضا" ساعدتها على النهوض وشكرت صديقتها الوفيه على الاهتمام بها وغادرنا. لقد اعادت لي الحياة.
بكت لحظة شاهدت منزلنا. وكما في ليلة زفافنا حملتها وصعدت بها إلى غرفتها كأميرة نائمة. وضعتها في الفراش وتأكدت أنها بخير ونمت على الكرسي المجاور محتضناً يدها. في الصباح عادت شمسي من جديد .. انها بجانبي، جلست أراقبها وهي نائمة. حتى وهيي مريضة وفي احلك ظروفها وهي ضعيفة أراها كالمﻻئكة، أراقبها وابتسم إلى أن فتحت عينيها قلت لها مبتسماً "الورد أنتِ كل صباح"

قصة مشتركة 
هي: لـ نبال قندس
هو : لـ صديق مجهول

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة