رسالة

20 تشرين الثاني

قدّرت أن أي خطوة للأمام سوف تكلفني حياتي، ولهذا وقفت متيبسة كأن قدّمي دُقَّتا إلى الأرض بمسامير غليظة وأي خطوة ستتطلب مني جهداً لم أعد أحمله في هذه اللحظة على وجه الدّقة.

لم يعد في وسع أحد أن يفعل شيئاً، وأدرك أنني اليوم لم أعد بحاجة إلى مزيد من المواساة أو حتى الحظ. لقد كان قراراً اتخذته بملء إرادتي بعد أن رتبت أوراقي وفكرت لعدة شهور فيما سأقدم عليه. وهكذا ستعرفون حين تقرأون هذه الرسالة - التي قد يجدها أحدهم في جيبي الأيمن - أنني لم أتواجد هنا عبثاً أو بمحض الصدفة.
لقد قدمت طلب استقالة من العمل، ووافق عليه المسؤول المباشر بعد جهد حثيث. كانت هذه هي الخطوة الأيسر على الاطلاق. فلم يكن العمل يوماً، ذاك الشيء الذي يشكل عائقاً أمام أي مشروع من مشاريعي المجنونة. وهكذا أزحت العثرة الأولى التي تحول ما بيني وبين الهاوية بعد أن كنت قد رسمت على مكتبي الرثّ في الغرفة المعتمة، مخططاً يصف الطريق ما بين هنا، الذي كان حينها "هناك" وما بين هناك الذي هو هنا الآن. وشعرت بارتياح عميق عندما ازحت أول عائق من أمامي.
كنت أعرف أن الجزء الأصعب، سيكون التخلص من أصدقائي، الذين لم أكن أحبهم أبداً حتى وصلت إلى هنا وأدركت كم أحتاج لوجود هؤلاء الحمقى.
كنت أمقت التجمعات الصاخبة والنكات والأحاديث التي لا تنتهي عن الدراسة والعمل والأندية الرياضية، ومستحضرات التجميل. لكنني الآن أشعر بحاجة ماسة لطعم طلاء الشفاه ولون طلاء الأظافر، ولهذا سأُخرج من جيبي الأيمن أيضاً، قلم أحمر الشفاه الذي وجدته في حقيبة تلك السيدة قبل أيام، وسأضع اللون الأحمر الصارخ ثم سأعيده برفقة هذه الرسالة إلى الجيب الأيمن مرة ثالثة.
في البداية كان يزعجني تجمّع التراب تحت أظافري الطويلة، لكنني بعد عدة أسابيع، اعتدت الأمر كما لو أنه جزء مني. لم يعد يُشكّل فرقاً مثل أشياء كثيرة لا معنى لها هنا. وهذا تبريرٌ -لا داعي له- في حال خطر في بالكم أن تعرفوا، سرّ التراب الذي يتواجد بين طيات هذا الورقة.

"أريد أن اكتشفت العالم". هذه فكرة خلابة للوهلة الأولى لأضعها عنواناً لانسحابي من علاقاتي الاجتماعية دون أن أقدّم الكثير من المبررات التي كنت سأحتاج لتقديمها لو قلت مثلاً "أريد أن اكتشف نفسي، وأن أعرف أين تقع الهاوية"

كان عليّ أن أتصرف بشكلٍ شنيع، تجاه كل الحمقى الذين أحبوني، لأتخلص منهم. وقد كانت الكارثة أنني في الوضع الطبيعي كنت امرأة شنيعة، لا تطاق. فكان عليّ أن ابتكر أسلوباً أكثر حدة وعنفاً، ليكون تصرفي أمراً مُعتبراً هذه المرة.
قائمة طويلة من الأسماء تفاجئت بها عندما حاولت حصر عدد الأشخاص المفترض أن أوجه نحوهم ضربتي القاضية. لم تكن مهمة سهلة على الاطلاق. إنهم كالجحيم.

هل هناك داعٍ للخوض في تفاصيل هذا الأمر؟ لا أظن. المهم أنني نجحت وتخلصت منهم جميعاً وأعرف الآن أنني شخص يحاول الجميع نسيان دناءته. وهناك من ما زال يعاني من آثار التهم التي الصقتها له. بعد أن عجزت كل الأساليب التي ابتكرتها وحدي، كان لا بد من الاستعانة بمن يقوم بتعذيبهم نيابة عني، كالدولة مثلاً.

أنا الآن لعنة ..
قد يتبع ...
28 – كانون الأول

ربما أشعر بالأسى الآن، لأنني ارتكبت كل تلك المصائب ولأنهم اضطروا لمكابدة كل العذابات التي وضعتها في طريقهم ويثير عجبي أنني أتذوق هذا الشعور للمرة الأولى في حياتي، أين كان هذا الجزء قبل أن أرحل؟ لماذا لم اكتشف أن في جسدي المحنط كجثة ما زال جزء يتسّم بكل هذه الرّقة؟ هل كان عليّ أن اتنصَّل من العالم لأدرك أنه كان ذو قيمة؟

لم يكن قراراً متسرّعاً على الإطلاق لأشعر بالندم الآن وأنا على بُعد عدة أمتار من القَدَرِ الذي ينتظرني، فلماذا يظهر الآن وجه أمي ويشدُّني إلى الوراء.
أمي!

لطالما تعذبت هي الأخرى بسببي أكثر من أي أمٍّ أخرى على الأرجح. والذين يقولون أن ألم المخاض هو أقسى ألم تواجهه المرأة لا يعملون أن هذه الأوجاع كانت بمثابة تربيت على الكتف لامرأة كأمي مقارنة بكل الذي رأته بعد مجيئي إلى الحياة.

بماذا فكَّرَت ذلك الصباح عندما وجدت غرفتي تشتعل؟ أحاول الآن تصوّر ملامح وجهها عندما استنشقت رائحة دخان تنبعث من غرفتي ثم هرعت تركض ناحيتها لتفتح باب الغرفة بكل ما تملك من قوة، فتهب ألسنة النار من الداخل باتجاهها.

هل دخلت بين النيران لتبحث عني دون أن تخاف على نفسها، كما اعتادت أن تفعل دائماً؟ هل ركضت نحو الهاتف تتصل بالدفاع المدني، أم أنها اتجهت للنافذة تستنجد المارّة والجيران لينقذوا ابنتها الوحيدة من النار التي تلتهم الغرفة.

قد تكون ملأت كل الاوعية بالماء وحاولت اطفاء النيران والسيطرة على الحريق.
ربما نادت اسمي إلى أن بُحَّ صوتها ولم يأتِها جواب من الغرفة المشتعلة. ربما استجدت اجابة مني وتوسلت لي أن أقول أي شيء لتتأكد أنني ما زلت حيّة.

كيف استطعتُ حمل كل هذا الشرّ؟ كانت حيلة جيدة أن أجمع كل أثاث الغرفة وأكدِّسه في زاوية واحدة لتصعيب المهمة عليهم أكثر مما هي صعبة. سوف يطفئون الحريق ويبحثون عن جثة متفحمة أو شبه متفحمة أو مصابة حسب وقت اكتشافهم للحريق. قد يظن المحقق المتحذلق أنني اختبأت بين الأثاث قبل الانتحار.

ثم، بووووووم! الخبر الصاعق. لم تكن ابنتك هنا أيتها الأم.
بيدي المرتجفة أحاول إكمال الرسالة التي بدأت بكتابتها، لكنني لا استطيع السيطرة على الرعشة في يدّي وفي الورقة التي أكتب عليها الجحيم الذي صنعته قبل رحيلي.
أُخرِج علبة السجائر الرديئة -من جيبي الأيسر هذه المرة-، وأحاول اشعالها بواسطة الولّاعة المتهالكة التي تشارف على إنهاء مهمتها، فتشتعل السيجارة بعد عدة محاولات.
أريد أن أنسى، أن يخرج من رأسي هذا العذاب.
قد يتبع أيضاً ..


30- كانون الأول

أريد أن أنسى، أن يخرج من رأسي هذا العذاب، فأنا لم أعد قادرة على الاستمرار في السير بينما أحمل كل هذه الصخور في رأسي الذي صار أشبه بجيب أنثى كنغر منتفخ، لكنني لا أستطيع مثلها السير أو القفز.

أشعر بحرقة في عيني اليمنى، ربما تحسست بفعل دخان هذه السيجارة العفنة أو ربما هو قلبي العَفِن، لم أعد أميّز في الحقيقية أو ربما لم أكن في الماضي وتفعّلت هذه الحواس مؤخراً.
غالبية الأشخاص الذين عرفتهم انسحبوا بسهولة من حياتي عندما عزمت على طردهم، لم يتطلب الأمر مني الكثير، فصمتي طوال هذه السنوات جعلني أُنصِت وأراقب مَن حولي كثعلب متمرس. كنت أعرف عن واحدهم كل شيء، ماذا يحب، ماذا يكره، ما الذي يجذبه وما ينفرّه، عرفت نقاط ضعف كل واحد منهم، وعرفت المكان المناسب للانقضاض على هذه الفرائس والتخلص منها واحدة تلو الأخرى. كانوا في نظري مجرد دُمى في مسرح عرائس.
أما هو، فكان أمراً آخر. لقد كان ذكياً، متيقظاً، لمّاحاً، لكنه ساذجٌ بما يكفي ليقع في حب امرأة مثلي. وأنا كنت أعرف طوال الوقت واتصرف بذكاء بحيث لا يشعر أنني أعرف كل شيء، وأفهم كل ما يدور.
حتى عندما كانوا يتخلون عني جميعاً ويَمَّلون من الدناءة التي اتصرف بها معهم، يصرّ هو على البقاء، مثل صخرة تجثم على صدري، ويعيد على الأقل مجموعة صغيرة تلتف حولي. أعرف أنهم كانوا مجبرين على تحمّلي لأجله، وأنهم حاولوا مراراً اقناعه بمقاطعتي والتخلص مني وأيضاً اقصاءي بعيداً، لكن هذا كان يزيده تمسكاً بي.
رقّته ولطفه كادا يسببان لي الجنون. وكدت أفقد الأمل معه.

كنت أعرف، عندما طلبت منه أن يأخذني معه إلى اجتماعاتهم السرية التي يناقشون فيها نشاطاتهم الثورية التي تعتبرها الدولة الفاسدة "أعمال شغب" أنه لن يرفض لي هذا الطلب وأنني سأكون برفقتهم في أول اجتماع بعد ذلك اليوم.

لن أنسى أبداً وجوه الشبان والشابات الذين تحلقوا حول النار في الغرفة الصغيرة في أحد الأحياء الفقيرة عندما شاهدوني أدخل إلى جانبه. كانوا كأنهم رأوا الموت شخصياً يقف أمامهم.
الآن فقط عرفت ما كان الشيء الذي أحسست به في تلك اللحظة وما الأثر الذي تركته تلك النظرات. والآن فقط استطعت أن أفهم تلك الملامح. لقد سقطتُ في الهَاوِيَة.
رغم أنني كنت أقف  على قدميّ، ورغم أنني ابتسمت ابتسامة خبيثة جاهدت في رسمها، كمن يحاول النحت في الصخر إلا أن تلك النظرات كانت دفعة قوية، ألقت بي من أعلى الجرف الصخري الذي كنت أقف عليه. الآن، في هذا المكان وفي هذه اللحظة، أريد أن أبكي لأنني لم أبكِ هناك، عندما صفعتني نظراتهم.
قد يتبع ..
13 – شباط 16
لم أكن يوماً شخصاً يُؤسف عليه، كما أن خسارتي لم تكن أمراً يثير اهتمام أحد. أكاد أُجزم أن حتى قطط الحيّ تشعر نحوي بسخطٍ فريد. لقد تجاوزت كل حدود القسوة في تعاملي معها، كنت أكرهها كما لو كانت لي ندّاً. لا أذكر عدد المرات التي قمت فيها بركلها بكل قوة عندما أراها جالسة تتمطى بكسلٍ أمام عتبة المنزل، ولا عدد المرات التي قمت فيها بإخفاء بقايا الطعام حتى لا تقوم أمي بإطعامها ما تبّقى على مائِدتنا. كنت أحشر ما تبّقى من طعامٍ في طبقي داخل فمي رغم إحساسي بالشبع، أحشر كل شيء داخل فتحة فمي الضيقة حتى أشعر أن الطعام يكاد ينفجرُ من وجنتيّ وأنفي.
أمنية بداخلي كانت تنمو عاماً تلو الآخر. أن يَمدَّ أحدهم يده وينتشلني من كل هذا العذاب، لقد كنت اثنتين في جسد واحد، إحداهما تستعبد الأخرى وتفرض سيطرتها على كل شيء. لم يكن بوسع أحد أن يلعب دور هذا الملاك المُنقِذ، كل أذى تسببت به للآخرين كان نداءً خفياً واستجداءً لكن الكون تآمر عليّ وتجاهلني كما لو أن تواطئاً خفياً حدث بين المخلوقات لتُغلق آذانها فلا تسمعني. صوتي المُتهَّدِل لم يكن يخرج من بين شفتي بل يعود إلى الوراء لتبتلعه خلايا جسدي كما لو أنها وحوش صغيرة.
أكتب كل هذا الآن وأنا أعرف أن الكتابة لن تغيِّر في الأمر شيئاً وأن هذه الأوراق التي تمتلأ الآن بالكلام سيكون مصيرها مجهولاً مثلي تماماً. قد تتعفن في جيبي قبل أن تُكتشف. إن غرقتُ ستغرق معي وإن احترقتُ ستحترق معي، وستنهشها الكلاب المفترسة والطيور التي ستهاجم جثتي إن بقيتُ في العراء. لم يعد هذا يعنيني، أنا أريد أن أكتب لأتخلص من عذابي لا لأبرر ما فعلته في حياتي السابقة. أشعر أن جسدي خزانة ضخمة فيها آلاف الرفوف وما أفعله الآن هو أن افتحها رفاً رفاً وأفرغ الواحد منها تلو الآخر. ولكن ساعاتٍ مضت وأنا لم انتهِ بعد ولن انتهي اليوم أو غداً وحتى للأبد.
"هذه الرسالة ليست اعتذاراً عمّا حصل قبل رحيلي" كتبت الجملة في بداية السطر لكنني عدت وخربشت فوقها لأُغطي هذا الهراء قبل أن تنفلت الأمور من بين يديّ فتطفح الرسالة بالمزيد من العناد القديم. يا اللهي، لا أصدق أنني بعد كل ما كتبته ما زلت أحاول تبرئة ذاتي والاصرار على السير في الطريق نفسهِ. لقد كان رحيلي محاولة لتغير الطريق إلى الأبد، ولا يمكنني أن أعود مجدداً إلى الأعاليب التي مارستها حتى ولو كان مجرد سطرٍ أخرق على صفحة لا أعرف أين ستنتهي بها هذه الرحلة. قررت أنني سوف أُطهِّر روحي مهما كلفني الأمر وأنني لن أعود أبداً الشخص الذي كُنته فيما مضى.
أعرف أن الفقرة السابقة تبدو مريبة إلى حدٍ ما، لقد مررت بمحاولات سابقة كانت جيدة إلى حدٍّ ما في التقرّب من الآخرين والتصرف بلطفٍ وإنسانية، لكن لسببٍ لا أعرفه تنفلتُ الأمور من بين يديّ في اللحظة الأخيرة. ينقلب الشيء إلى نقيضه وأبدو امرأة مريعة، مريعة بشكلٍ لا يطاق ومثيرٍ للغثيان.


قد يتبع...

Comments

  1. أتشوق لقراءة المزيد

    ReplyDelete
  2. اتمنى قراءة البقية

    ReplyDelete
  3. اتمنى قراءة البقية

    ReplyDelete
  4. رائعه نبال اكملي هذه البانروما

    ReplyDelete
  5. وأجمل ما فى كتابتك الشغف الذى اتخذتيه لها غلافا فأصبحت الحروف تتقافز أمامك عل عينيك تقع على أحدها فبه تبدأين .
    أكملى شغفك

    ReplyDelete
  6. ماذا حصل فيما يتعلّق ب"أعمال الشغب" ؟
    بإنتظار ما يتبع..

    ReplyDelete
  7. كتاباتك كأنها تعبر عن شي ما في داخلي ، غريبة انتي و كم يعجبني هذا

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

رسائل ما بعد منتصف الليل

رسالة إلى صديقٍ غريب - نبال قندس

لم يكن وحيداً، كانت لديه مكتبة